سورة الأعراف - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأعراف)


        


{وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)}.
التفسير:
وهذا لوط وقومه.. ولكل قوم داؤهم الذي جاء الرسول ليطبّ لهم منه.. وداء هؤلاء القوم هو أنهم يأتون الرجال شهوة من دون النساء، وقد كانوا في هذا الفعل المنكر أول أناس فعلوه.. فهم أئمة في هذا الضلال، عليهم وزر هذا الإثم ووزر من عمل به إلى يوم القيامة! والقوم- شأنهم شأن كل معتد أثيم- يستمرئون هذا الضلال، ويقيمون له منطقا يقع من نفوسهم موقع اليقين والاطمئنان، وبهذا عدّوا أنفسهم أصحاب دعوة راشدة، ودعاة فلسفة حكيمة، وأن لوطا ومن معه قوم منحرفون، متجمدون على القديم، لا يتحولون عنه.. ومن هنا سوّل لهم منطقهم هذا أن يؤذنوا لوطا ورهطه بالخروج من بينهم: {فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ}.
وتجىء الخاتمة، كخاتمة كل صراع بين حق وباطل، وهدى وضلال.
{فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ} أي كانت من هؤلاء القوم الذين هلكوا ومضوا.. فالغابر، هو الماضي، إذ كان من شأنه أن تعلوه الغبرة بفعل الزمن.. وقد أصبح هؤلاء القوم في حكم الغابرين، إذ قضى اللّه بإهلاكهم وليس لقضائه من مردّ.
وهذا لوط وأهله إلا امرأته قد نجوا، وسلموا من هذا البلاء.
وأما قومه فقد أمطروا مطر السّوء.. مطرا من نوع لم يعرفه أحد.
ولهذا جاء النظم القرآنى: {وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً}.
هكذا مطرا منكرا على غير مألوف الحياة.. إنه حجارة من سجيل، قلبت المدينة وما فيها ظهرا لبطن، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى في سورة هود: {فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ} فهو، مطر ولكنه من حجارة، وهى حجارة ولكنها من سجّيل (أي من صوّان) وهى سجّيل ولكنها منضودة (أي مهيّأة ومعدّة لهم، في أحجام منتظمة) وهى منضودة، ولكنها مسوّمة (أي معلّمة، يعرف كل حجر منها المكان الذي يقع عليه والأثر الذي يحدثه).
وقوله تعالى: {فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} دعوة إلى النظر المتأمل المتفحص، الذي يأخذ العبرة من الأحداث... ففى هذا الذي حدث لقوم لوط عبرة وعظة.


{وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (87)}.
التفسير:
وهؤلاء قوم شعيب، وداؤهم أنهم يختانون في الكيل والميزان، فإذا كالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون.
وقد جاء شعيب يدعو قومه دعوة الحق، ويقيمهم على طريق العدل فيما بينهم.. وها هو ذا يقول لهم: {يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ}.
فمن آمن باللّه كان من شأنه ألا يظلم، ولا يعتدى، {قد جاءتكم بينة من ربّكم}.
والبينة هى الآية والمعجزة المتحدية، ولم يذكر القرآن الكريم نوع هذه المعجزة، ولكن الذي ينبغى التصديق به أنه كان بين يديه معجزة ما، تحدّى بها القوم، وأراهم قدرة اللّه منها.. {فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ} والبخس هو الغمط، والنقص، والخيانة.
{وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي إن كنتم مؤمنين باللّه، ومؤمنين بالحق والعدل الذي يدعو إليه الإيمان.
{وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ} والقعود بكل صراط: هو التصدي لمن يريدون الحق، ويطلبون الهدى، والإبعاد: الوعيد بالشرّ والتهديد به.
{وتبغونها عوجا} أي تريدون أن تكون هذه السبيل- سبيل اللّه- معوجّة، أي ينحرف الناس عنها إلى سبيل الضلال والغىّ.. فهكذا أهل السوء والضلال، يحرصون دائما على أن يكون الناس جميعا على شاكلتهم، حتى لا يظهر سوؤهم، ولا ينكشف ضلالهم.. وهكذا الشرّ دائما موكّل بالخير، يريد أن يشوّه معالمه، ويفسد طبيعته، ليتوازى معه على كفتى ميزان.
ولكن اللّه بالغ أمره.. فما كان قائما على الشرّ والفساد، مستنبتا في منابت الضلال، فلا بقاء له، وما كان قائما على الحق والخير، مغروسا في مغارس الهدى والنور، فهو شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتى أكلها كلّ حين بإذن ربّها.. {كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ، فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ}.


{قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (89) وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (93)}.
التفسير:
بلّغ شعيب قومه رسالة ربّه، ونصح لهم، واستقبل إساءاتهم بالحسنى، وسفاهاتهم بالصفح والمغفرة- هكذا الأنبياء والمرسلون، ينظرون إلى من أرسلوا إليهم نظرة الطبيب الحكيم إلى مريض، استبدّ به مرضه، فأفقده صوابه أو أفسد تفكيره... وإن مهمة الرسل لهى أشقّ من هذا، وأكثر حاجة إلى الرفق والملاطفة، وإلى الحكمة والكياسة في اتصالهم بأقوامهم، وفى تألّفهم واستئناسهم، حتى يسمعوا لهم، ويقبلوا منهم، إن كان فيهم بقيّة من خير، أو إثارة من عقل... وفى هذا يقول اللّه تعالى لنبيّه الكريم: {ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [125: النحل].
وهاهم أولاء سادة القوم، وأصحاب الكلمة فيهم، والسلطان عليهم، يتصدّون لشعيب، ويقفون لدعوته بالمرصاد، إذ كانت هذه الدعوة تنزلهم من النّاس منزلة الآدميين، لا الآلهة المتسلطين، وتغلّ أيديهم عن هذا الكسب الحرام الذي يغتالون به حقوق الضعفاء، ويمتصون به دماء الفقراء.
وإنه لو قدّر لشعيب أن يمضى بدعوته إلى غايتها، لسدّ على هؤلاء السّادة منافذ البغي والعدوان، ولما بقي لهم في الناس هذا السلطان المبسوط لهم على رقاب العباد.
ولا يكتفى هؤلاء السادة أن يعرضوا عن شعيب وعن دعوته، بل إنهم يجاوزون هذا إلى تهديده ووعيده بأن يخرجوه من بينهم، هو ومن آمن معه، إن لم يرجع عمّا هو فيه، وإن لم يعد إلى حاله الأولى قبل أن يطلع عليهم بتلك الدعوة التي يدعوهم إليها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا}.
إنها لقريتهم! هكذا يقولونها صريحة في غير مواربة.. {قريتنا} بحالها التي هى عليها، وبكل ما كان يموج فيها من ظلم وفساد.. أما شعيب والذين آمنوا معه، فهم شيء غريب، دخل على هذا الكيان الفاسد، وهم دواء مرّ يأبى أن يقبله هذا الجسد العليل.
وينكر شعيب على هؤلاء السفهاء من قومه أن يدعوه إلى تلك الدعوة المنكرة.. إنه يدعوهم إلى الحق والخير، وهم يدعونه إلى الضلال والهلاك، وشتّان بين دعوته ودعوتهم.. وإنه إذا لم تكن منهم استجابة له، فلا أقلّ من أن يدعوه وشأنه، وأن يدعوا النّاس وما يختارون لأنفسهم من موقف إزاء دعوته ودعوتهم، وألا يحولوا بينه وبين من يستجيب له منهم، وألا يتسلطوا على الذين آمنوا معه، ويحملوهم على السير معهم في هذا الطريق الذي ارتضوه، وأبوا أن يتحولوا عنه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى على لسان شعيب: {أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ؟} أي أيكون هذا موقفكم منّا، ووعيدكم لنا بالإخراج من القرية، إن كنا مصرّين على موقفنا، متمسّكين بعقيدتنا، كارهين لما تدعوننا إليه من العودة إلى ملّتكم؟ إنّ الدّين لا يكون عن إكراه، وإن العقيدة لا تقوم على التسلط والقهر.. فكيف تكرهوننا إكراها على دين لم نقبله، وعلى عقيدة لم نرضها؟ إنّه لا إكراه في الدين، وإننا لن نكرهكم على ما ندعوكم إليه، فكيف تكرهوننا على ما تدعوننا إليه؟ ثم تهددوننا بالطرد من قريتنا إن لم نستجب لكم؟ ذلك ظلم مبين، وعدوان آثم.
{قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها}.
أي إننا وقد عرفنا الحق، وآمنا به عن فهم واقتناع، فإن الحيدة- بعد هذا- عن طريق الحق، هى افتراء على اللّه، وكذب صراح في وجه تلك الحقيقة المشرقة.
{وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا}.
إذ كيف يقبل عاقل أن يرد موارد الهلاك بعد أن خلص منها، وسلك مسالك النجاة؟
{وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً}.
إنّنا لن نعود أبدا إلى ملتكم بعد أن نجانا اللّه منها، إلّا أن يكون ذلك عن مشيئة سابقة للّه فينا، وعن قدر قدّره علينا، فذلك من شأن اللّه وحده، هو الذي يملك من أنفسنا ما لا نملك، فإذا كان اللّه قد شاء لنا أن نعود القهقرى إليكم، ونردّ على أعقابنا معكم، فنحن مستسلمون لأمر اللّه، راضون بحكمه، أما نحن في ذات أنفسنا، فعلى عزم صادق ألّا نعود في ملتكم أبدا، إلا أن ينحلّ هذا العزم بيد اللّه، لأمر أراده اللّه، وقضاء قضى به.. {وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً}.
فهو- سبحانه- وحده الذي يعلم مصائر الأمور، ولا يدرى أحد قدره المقدور له، ولا مصيره الذي هو صائر إليه، فذلك علمه عند علام الغيوب.. أما نحن فمطالبون بأن نستقيم على الحق، وأن نفوّض الأمر لمالك الأمر.. {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ}.
والفتح هو الحكم، وتلك قضية بين شعيب وقومه، هو يدعوهم إلى الهدى، وهم يدعونه إلى الضلال، وهو يلقاهم بالحسنى، وهم يتهدّدونه بالبغي والعدوان، واللّه سبحانه وتعالى هو الذي يحكم بين الفريقين، ويدين من هو أهل للإدانة، ويأخذه بما يستحق من عقاب.
وقول شعيب: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ} مع أن فتح اللّه أو حكمه لا يكون إلا بالحق- هو تقرير للواقع، وإشعار للخصوم بأنهم لا يؤخذون بغير الحق، وأنهم وشعيب على سواء بين يدى من يفصل بينه وبينهم فيما هم مختلفون فيه.
ومع هذا الموقف العادل الذي يقفه شعيب من قومه، وفى موقفه معهم في ساحة القضاء الذي يقول كلمة الحق بينه وبينهم- فإنهم لم يقبلوا هذا منه، ولم ينتظروا ما ينجلى عنه هذا الموقف، بل جعلوا إلى أنفسهم أمر القضاء في هذا الخلاف، وأعطوا لأنفسهم كلمة الفصل فيه، وأنهم هم وحدهم أصحاب الحق.
فأدانوا شعيبا، وحكموا عليه بالخروج من القرية هو ومن آمن معه، واستعجلوا إنفاذ هذا الحكم فيه وفيهم.
{وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ}.
هذا هو محتوى الحكم الذي حكموا به. من اتبع شعيبا فهو من الخاسرين، لأن شعيبا على باطل، وهم على حق، وإذن فلن يخلص من أيديهم إلا بأن يخرج من القرية، ويمضى حيث يشاء.. هكذا قدّروا، وهكذا حكموا.
وما أن همّوا بإنفاذ هذا الحكم، حتى جاء الحكم الذي لا يردّ، الحكم الذي حكم به أحكم الحاكمين.
{فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ}.
إنه الحكم الذي أدين به من قبل أشباه لهم، كذبوا رسول اللّه، وعقروا ناقة اللّه.. إنهم قوم صالح، الذين أخذتهم الرجفة من قبلهم فأصبحوا في دارهم جاثمين.. والرجفة هى الاضطراب والزلزلة... فلقد زلزلت بهم الأرض، ودمدم عليهم ربهم بذنبهم، فأصبحوا في ديارهم جاثمين، أي جثثا هامدة، لاحراك بها.
{الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ} تلك هى عاقبة المكذبين.. لقد أقفرت منهم الديار، حتى كأنهم لم يكونوا من عمّارها يوما.
يقال: غنى بالمكان، أي أقام فيه، وسكن إليه، بما اجتمع له من وسائل تغنيه عن التحول عنه.
ويتلفّت شعيب إلى ما حلّ بقومه، وما صار إليه أمرهم بعد أن أصبحوا جثثا هامدة وأشلاء مبعثرة، فيأسى عليهم، ويحزن لهم، ولكن سرعان ما يدفع عنه مشاعر الأسى والحزن، حين يراجع حسابه مع قومه، وما كان منه ومنهم، فيجد أنهم ليسوا أهلا لدمعة رثاء تدمعها عينه عليهم.
{يا قَوْمِ... لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ}؟.
إنه ليس أرحم من اللّه بهم، ولقد أرسل اللّه إليهم غيوث رحمته على يد رسول كريم، فأبوا أن يقبلوها، وتهدّدوا من حملها إليهم، وآذنوه ومن آمن معه بالطرد من القرية، فكان ما أخذهم اللّه به، هو الجزاء العادل الرحيم.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9